بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 6 ديسمبر 2009

التنبش في ذاكرة أحياء عاشوا تجربة الموت





كل عام يعود المئات من غيبوبتهم، محملين بآلاف القصص الغريبة بعد رحلة استثنائية في عوالم ما بين الحياة والموت، حياة أشبه بالبرزخ، قد يختلط فيها الواقع بالحلم أو الخيال، وقد تُنْسَجٌ في رحابها قصص دون قصد من أصحابها، بل يجدون أنفسهم داخل أحداثها بعدما واجهوا الموت، بدم بارد، إن لم نقل ذاقوا سكراته الحتمية؛ في هذا الباب حاولنا التنقيب عن أولئك الذين وجدوا أنفسهم وجها لوجه مع الموت، وركبنا وإياهم زورق البوح للإبحار في عالم ميتافيزقي غريب، بغية الوصول إلى أفق تنكشف فيه الرؤى وتستشف فيه الأنفس مآربها المتمثلة في إيجاد أجوبة لأسئلتها الصعبة، ليبقى السؤال الذي عجز العلماء عن تفسير حيثياته ملوحا في الأفق البعيد، هو: ما الذي يحدث بين الحياة والموت؟


فاطنة" المرأة التي قضت أسبوعا كاملا في مستودع الأموات


أحيانا يجد المرء الذي انتشله القدر من موت محقق عبر حادث ما، أن الأيام التي يعيشها مجرد ربح أو هبة حباه الله بها، كما قد تجده سجين ذكريات أليمة حفرت أخاديدا عميقة في دواخله أو أنه أسير صور تولدت إثر خطأ لتشيخ في صدره مع مرور الوقت، خصوصا إذا كان المعني بالأمر قد واجه الموت رفقة ذويه وأهله أو أن ظروفا خارجة عن دائرة حساباته قادته صحبة أصدقائه وخلانه إلى الغوص في عوالم الموت التي تمتزج فيه الألوان والأشكال، ليجد نفسه وحيدا يلوك أنينه أو يتحسس أعضاءه بين الأجساد الآدمية متناثرة الأطراف وسط برك من ا لدم المختر الذي ارتشفت الأرض أمصاله بسخاء، فهناك حالات كثيرة تملصت من الحدث (الموت) بأعجوبة، كما لا زالت العديد من نقاط الاستفهام تحملهم لطرح الأسئلة حول الكيفية التي أمّنت لهم العيش مرة ثانية، في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وجدت فاطنة بلخطاب نفسها داخل غرفة الإنعاش بمستشفى محمد الخامس بالجديدة، محفوفة بروائح نتنة تميل إلى العفن منبعثة من جسدها المليء بالكسور والجروح،، كانت أسمالها الممزقة شاهدة على أنها تعرضت لحادث عنيف رمى بها على جنبات طريق معشوشبة، حتى أن دمها الذي امتزج بالتراب تحجر فوق ثيابها مما زاد من حجم معاناتها، خصوصا لما أفاقت من غيبوبتها التي امتدت أسبوعا كاملا، كانت فاطنة القادمة من مدينة اليوسفية على متن سيارة أجرة تجد صعوبة في التنفس، داخل فضاء الطاكسي الضيق، خصوصا أنها استقلته رفقة خمسة ركاب قادمين من هناك، كانت وجهتها دوار العمامرة، حيث منزلها المحاذي للطريق المؤدية إلى "أربعاء العونات"، تقول فاطنة "لازلت لا أذكر ماذا وقع آنذاك، كنت شاردة الذهن، في لحظة سهو عميقة، حتى تصاعد صياح الركاب من حولي لتمتص أضلعي صدمة قوية لم أعرف مصدرها، انتقلت فجأة إلى عالم يسوده هدوء تام، عالم شاسع لا نبات فيه، ولا بشر، به الألوان غير الألوان، لم تخفني وحشة المكان، وإنما أحسست بالخلود، كانت المشاهد هناك أشبه بالأحلام، تتغير فيها الفضاءات وتتعدد الأزمة في آن واحد، عشت هناك ردحا من الزمن، صادفت أناسا من مختلف الأجناس، في لحظة ما وجدت نفسي مستلقية تحت ظلال شيء ما، ينبعث منه بين الفينة والأخرى ضوء قزحي شفاف، لأسمع صوتا ما يناديني "فاطنة، فاطنة"، أحسست حينها أن العالم الرائع الذي اخترقته منذ مدة أخذ يتملص من جسدي رويدا وريدا، وكانت صوره البديعة كلما ابتعدت إلا وأحسست بألم ما في أطرافي، وهكذا حتى وجدت نفسي أمام أضواء كاشفة، وقد تحلقت حولي بعض الممرضات، اللواتي بذلن جهدا لإنقاذي، وعلمت فيما بعد أني قضيت أسبوعا داخل مستودع الأموات، وسبب إنقاذي هو أن إحدى الممرضات كانت ترافق رجلين للتعرف على متغيب يظنون أنه ضمن الموتى في المستودع، ليلفت انتباهها أنين خفيف منبعث من إحدى الصناديق"، كانت فاطنة تجد صعوبة في استدراك أيامها الصعبة تلك، فبعد أن عثرت عليها إحدى الممرضات، حملتها الدهشة والاستغراب إلى التوجس من حالتها، إلا أنها أخبرت الطاقم المشرف على مثل هذه الحالات ليتم حملها إلى غرفة الإنعاش.. تضيف فاطنة " لقد توفي كل من في سيارة الأجرة بمن فيهم سائقها، حتى أنهم لم يجدوا أمتعتي التي تحتوي على بطاقتي الوطنية، لكن ما آلمني هو أنهم لم يتعرفوا على هويتي إلا بعد مرور عشرة أيام". وهناك العديد من أمثال فاطنة الذين واجهوا الموت بدم بارد، فمنهم من وجد نفسه على مشارفها ومنهم من ولج عوالمها ليعود من حيث أتى إلى دروب الحياة المتشابكة، محملا بصور غريبة لا يفك شفراتها إلا من عاش نفس التجربة.


تجارب بعض العائدين من الموت
"ملي عرفتها الموت، شهدت واستسلمت"


"ملي عرفتها الموت، شهدت واستسلمت"عبارة أطلقها علي (طالب جامعي، 22 سنة) مصحوبة بتنهيدة، تمددت بحجم السنوات التي مرت على الفاجعة، عاد بذاكرته سنتين إلى الواء، حين حملته رغبته إلى ركوب الأمواج والغوص في مياهها الدافئة، غير آبه لخطورة شاطئ "عين الذئاب" بالدار البيضاء الذي ابتلعت تياراته المئات دون التمييز بين الجنسين، وكذا أعمارهم؛ ففي صيف 2004 تأبط علي حقيبته رفقة أصدقائه، وتوجهوا مشيا على الأقدام إلى الشاطئ، طيلة المسافة الفاصلة بين المدينة القديمة و"عين الذئاب" التي مارس خلالها علي وأصدقاؤه شغب الشباب، المفعم بالحيوية، كان صديقه عادل يحمل آلة تسجيل على كتفه تنبعث منها أغنية للشاب خالد " من وهران لمارساي". يقول علي "بعد أن أخذت حمام شمس على رمال الشاطئ قررت أن أعانق البحر، كان مكتظا بعشاق السباحة، وشيئا فشيئا أخذت مكاني بينهم، كنت أحس أن شيئا ما يجذبني إليه، حتى أن خطواتي المثقلة أخذت تتسارع إلى الأمام وكأنها تهرول إلى المجهول، فما إن التفت خلفي حتى أصبت بالدهشة، واعتراني خوف شديد لكوني ابتعدت بحوالي ستة أمتار عن الأجساد التي تسبح بحذر، فرغم أني أجيد السباحة، إلا أن دقات قلبي المتسارعة وكذا إصابتي بتشنج عضلي على مستوى قدمي (كلاكاج) حال دون عودتي أو حتى التجديف للخروج إلى بر الأمان، حاولت الصراخ إلا أني تنفست الماء بحجم رئتاي وأصبت بسعال حاد وسط مياه البحر المالحة، جحظت عيناي ولم أعد أرى سوى البياض، كنت أصرخ بشدة، لكن لا أحد يسمع، في لحظة ما أحسست أني ولجت عالما آخر "يستدرك علي الذي رحلت به ذاكرته إلى عالم غيبي يختلط فيه الواقع بالخيال أو الغرابة إن لم نقل عالما ميتافيزيقيا مليئا بصور غير صور الحياة المادية، يضيف علي " في اللحظة التي كنت أترنح فيها وسط المياه، استرجعت شريط حياتي، بأدق تفاصيله إلى آخر لحظة امتلأت فيها رئتاي بمياه البحر المالحة، لأشعر أني أغط في نوم عميق، كنت كمن عاش ألف عام أو أكثر، رأيت أشياء غريبة والتقيت بأناس كنت قد رأيتهم في صغري، جالست جدي الذي توفي قرابة عشر سنوات، وسط هذا الهدوء التام، أحسست بألم شديد في بطني، ما إن ينجلي حتى يعود من جديد، سعلت ثم فتحت عيناي بصعوبة لأرى حولي أجسادا عارية، أدركت أنهم مسعفون من فرقة الوقاية المدنية، كان أحدهم يضغط على بطني بكل ما أتاه الله من قوة. لقد ذقت الموت، بل ولجت عالمه الغريب، أيقنت ساعتها أن هناك حياة أخرى بعد الموت، لكن ما استغربت له هو أن المدة بين الغرق والإنقاذ لم تتعد سوى خمس دقائق حسب ما صرح لي به أحد أصدقائي، لكنني عشت سنوات طوال في غيبوبتي أو موتي إن صح التعبير.

العقرب أو المفتاح إلى العالم الآخر


وهناك حالة أخرى تتقاطع مع حالة علي، إلا أنها تختلف عنها شيئا ما اعتبارا لخصوصيتها واختلاف فضائها، ففي صيف 2000، وجد محمد نفسه مضطرا للاستيقاظ من نومه العميق، فقد تذكر أن الأبقار في "الكوري" لم يأخذوا نصيبهم في العلف، آنذاك توجه نحو مستودع أوراق الشمندر، وحمل منه مقدار ما ضمت يداه، لم يمض سوى خطوتين حتى أصيب بلدغة عقرب سوداء من النوع الذي يحتوي ذيلها على سبعة عقد، أحس حينها بما يشبه فيالق من النمل تدب عبر أوردة ذراعه النحيف، توجه نحو منزله الذي يبعد عن المستودع بحوالي 10 أمتار وأيقظ أهله، ليستفيقوا على هول الفاجعة التي ألمت بمحمد، سارع والده إلى ربط ذراعه بمنديل والدته ثم سارع أخوه إلى إعداد العربة لنقله إلى المستوصف الذي يبعد بحوالي 15 كيلومتر لكن عمه أصر على أن يخضعوا مكان اللدغ لغاز القنينة الذي قد يحدث برودته وقفا في انتشار سم العقرب، بعد ذلك حمله أخوه رفقة والده إلى رجل مشهور بينهم في علاجه لدغات العقارب، فور وصولهم إليه حمل هذا الأخير شفرة حلاقة وأخذ يمزق مكان اللدغ، فتارة يمتص الدم من ذراعه وتارات أخرى يحدث جروح عميقة على مساحة ذراعه، حتى فقد محمد وعيه، يقول عبد الله (أخ محمد) بدا وجهه أزرقا، فيما درجة حرارته انخفضت، ليصبح جسمه النحيف شديد البرودة، حملته على وجه السرعة إلى منزل "بوشعيب" الذي يمتلك شاحنة، ثم توجهنا نحو "فيلاج أحد ولاد فرج" حيث المستوصف الذي يعالج مثل هذه الحالات، وهنا يصف محمد تجربته مع الموت المحقق، "لقد فقدت الإحساس بالأشياء التي تملأ فضاء الأمكنة التي انتقلت إليها، كان السكون يخترقني شيئا فشيئا، بدءا من أخمص قدمي إلى رأسي الذي كان بردا كجليد.
ثم فجأة وجدت نفسي في فضاء مخالف تماما عن "فضاء الدوار"، لقد رأيت نفسي جثة هامدة على سرير في مستوصف "أحد ولاد فرج" ورأيت أسرتي وهي تتساءل عن مصيري، حاولت التحدث إليهم، لكن لا أحد يسمعني، ثم أحسست بأن قوى الجاذبية لا تنطبق على جسمي النحيف، لقد عشت لحظات لا أظن أني سأعيشها في حياتي إلا عندما ألج عالم الموت، وفي إحدى اللحظات أحسست بدفء ما يتخلل جسدي، ليخترق مسمعي صوت والدتي التي كانت تنوح وتنذب حظي التعيس، حاولت النظر لكن عيناي كانتا مثقلتين". لقد توحد محمد في تجربة الموت، مع باقي الحالات التي صادفنها، فكلهم أقروا أنهم عاشوا حياة أخرى خيالية أقرب إلى الواقع، خصوصا أنهم تحسسوا الأشياء التي صادفوها في رحلتهم تلك، غير أن هذه الحالات تستدعي دراسات معمقة للوقوف على مادية هذه الحياة الغيبية، وبالتالي إنتاج تفسير علمي لظاهرة العيش في حيز شاسع مليء بالصور والمحطات المختلفة بين الحياة والموت.


بوجمعة "الله يسمح لي شفت جهنم حقيقية"


لازال ذاك اليوم موشوما في ذاكرتي، أتذكره كلما وجدت نفسي شارد الذهن، ففي شهر رمضان الكريم (سنة 1997) أفقت من نوم عميق على الساعة الرابعة بعد الزوال، كانت ساعتان فقط تفصلنا عن آذان المغرب، سمعت آنذاك والدتي تحدث أختي عن طهو السمك، وكذا الإعداد لمائدة الفطور، ثم عدت إلى مضجعي لأن الصوم بلغ بي أشده، استغرقت في النوم، إلا أنني استيقظت مرة ثانية على صوت والدتي التي كانت تحاول إيقاظي قائلة "نوض أولدي البوطا غاز غادة تفرقع"، نهضت بسرعة متوجها نحو المطبخ، لأجد الغاز منبعثا من القنينة بكمية هائلة، أشبه بفوهة بركان، اندلع فجأة.
لم أتردد في حمل قنينة الغاز إلى الخارج، أحسست بهستيريا عميقة، كنت ساعتها أرى باب المنزل الذي لا يفصلني عنه سوى أربعة أمتار خلاصا لعائلتي، غير أني لم أنتبه إلى قنينة غاز أخرى كانت قرب الباب، كانت والدتي قد أعدت على لهيبها قدرا من "الحريرة". وكان همي آنذاك هو أن أخرج القنينة الأولى إلى زقاق الحي، غير أني لم أنتبه إلى قنينة الغاز الثانية، فما إن مررت بجانبها حتى اندلعت النيران في المنزل بكامله بحكم الغاز الذي تسرب في أرجاء البيت، إلى درجة أن ضغط النار أحدث رجة كبرى في المنزل، أغلق على إثره الباب الذي كنت أرى فيه الخلاص لباقي الأسرة، تسمرت في مكاني وقلت في نفسي هذا آخر يوم في حياتي، حتى أن النار اندلعت في ثيابي وظهري وامتدت إلى وجهي ثم كل أطرافي، كنت كمن يسبح في وعاء من النار، كان الصياح يتعالى من روائي، لم انتبه إلى وجود أختي وكذا حماة خالي التي زارتنا في ذاك اليوم، كان اعتقادي آنذاك أني إن رميت القنينة الملتهبة بين يدي سيحدث انفجار قد ينهار بسببه المنزل، وأول ما تذكرته آنذاك هو رؤية، كنت قد شاهدتها في يقظتي قبل يومين من وقوع الحادث، وهي أني رأيت نفسي في منطقة الواليدية بمدينة الجديدة أحمل على ظهري قنينة الأدوية التي يعالج بها الفلاحون النباتات ويرشون بها الحشرات لإبادتها، ورأيت أن تلك القنينة التي تحتوي على مبيد للحشرات قد انفجرت فوق ظهري، ساعتها أيقنت أن الرؤية تحققت، وما علي إلا أن أنطق الشهادتين، التفت ورائي فإذا بحماة خالي شبه متفحمة، بينما أختي هي الأخرى تعاني من حر ألسنة النار التي حفت كل من في المنزل، وما هي إلا لحظات حتى رميت القنينة من يداي اللتان تورمتا لتتدحرج القنينة إلى الوراء، ساعتها أيقنت أنها النهاية، لم يعد يفصلني عن الموت إلا دقائق معدودات خصوصا أني فقدت الحركة، وما هي إلا عشر ثواني على أبعد تقدير حتى دوى انفجار ضخم اقتلع على إثره باب المنزل، لأجد نفسي محمولا في الهواء رفقة أختي وحماة خالي حتى اصطدمنا بحائط المنزل المجاور لبيتنا، بعد ذلك توجهت نحو بقال بحينا وجلست أمامه، كان المارة يعتقدون أن أحد ما أفرغ علي كيسا من الدقيق، لأن لون جسدي كان أبيض بفعل الحروق البليغة التي أحدثتها النيران آنذاك وما حز في نفسي هو تأخر سيارة الإسعاف التي كان من المفروض أن تأتي على وجه السرعة فور تلقيها نبأ الحادثة، وبعد أن تم نقلنا إلى مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، توجه نحوي رجال الشرطة يستفسرون عن أسباب الفاجعة، أما أختي فقد تعرضت للإهمال إلى درجة أنها فقدت لحم ساقيها مما استدعى الأطباء هناك إلى زرع لحم ظهرها لتعويض ما ضاع من ساقيها، أما حماة خالي فقد توفيت بعد يومين. والدتي هي الأخرى لم تسلم من لهيب النار التي حصدت متاع المنزل بكامله، لازالت تلك المشاهد الرهيبة تجثم في مخيلتي، كيف لا وقد دخلت عالم الموت من أبوابه الواسعة " الله يسمح ليا شفت جهنم حقيقية" وهنا سأعترف بشيء ظل منذ وقوع الحادث ينخر في جسدي "كليت رمضان الله يسمح ليا"، لم أصم يومين، وسبب ذلك هو أنني رأيت بعض شباب الحي يأكلون في واضحة النهار، وقلت في نفسي ما الفرق بيني وبينهم، إنهم يتميزون بصحة جيدة ومع ذلك لم يصدر في حقهم أي عقاب إلاهي كما يتداول الناس في مابينهم، حتى أن أحد أصدقائي بعدما اكتشف أمري قال لي "ما غديش يدوز عليك العام حتى يخرج فيك رمضان" وبالفعل أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أغوص في ألسنة النيران أن العدالة الإلهية تحققت، ساعتها أدركت أنها النهاية ولو لا نطقي بالشهادتين لتفحمت جثتي وأصبحت ذكرى يتداولها شباب الحي، لكن ما خفف من معاناتي وانا ملقى على سرير طبي بمستشفى ابن رشد هو أن حادثتي تزامنت مع حادثة "مليكة سرسري" تلك الشابة التي صب عليها عشيقها البنزين وأضرم فيها النار دون شفقة، كانت تزورني بين الفينة والأخرى، لقد وجدت فيها صدرا رحبا اتسع لامتصاص معاناتي وتحويلها إلى أمل في العيش، كان الخوف يتملكني، اعتقدت أن وجهي سيحمل تشوهات أبدية جراء الحروق البليغة التي ألمت به، لكنها كانت تواسيني وتزرع الأمل الذي كانت هي نفسها قد فقدته، من حسن الصدف أن صالتها كنت تجاور صالتي، وكانت تزوروني دون قناع، أدركت فيما بعد أنها كانت تحاول أن تكسر كل الحواجز التي قد تمنع التواصل فيما بيننا، وكانت تقول لي "يجب عليك أن تشكر الله كثيرا، أنظر ماذا حدث لي، فآلامي تضاعف آلامك، لكنني أحمد الله عز وجل"، فرغم أن قضيتها أحدثت ضجة في البلاد، وتم تداولها في وسائل الإعلام إلا أنها نبهت القناة الثانية التي زارتها في صالتها على وجود شاب في الصالة المجاورة يعاني من حروق بليغة جراء انفجار قنينة الغاز، لترافق طاقم القناة للوقوف على حالتي، لقد تعاطف مع عائلتي العديدون، فقد أصدر عامل عمالة سيدي عثمان، آنذاك أوامره على تتبع حالتي، إلا أن ذلك لم يتم، وكان بعض المحسنين، وكذا المتعاطفين هم من تولوا رعاية العائلة، حتى أن شركة التأمين حملتنا المسؤولية، بدافع أننا لم نحترم شروط إشعال قنينة الغاز، فمن السخرية أن يقولوا أننا لم نحترم المسافة الفاصلة بين القنينتين المتمثلة في أربعة أمتار، فقد كان حريا أن يروجوا عبر وصلات الإشهار في حملات توعية كيفية استعمال قنينة الغاز وكذا الشروط المؤدية إلى عدم حدوث ما لا يحمد عقباه، لا أن تحملنا شركة التأمين المسؤولية.

Almichaal hebdo

هل سيتراجع شيوخ "السلفية الجهادية" عن مواقفهم السابقة؟






بعد رسالة الفزازي التي بعثها إلى ألمانيا ومراجعة أفكاره
هل سيتراجع شيوخ "السلفية الجهادية" عن مواقفهم السابقة؟


هل هي بداية العد العكسي لإعلان بعض شيوخ ما سمي بـ السلفية الجهادية" بعد مرور أزيد من ست سنوات على اعتقالهم، عن مراجعة أفكارهم والتوبة مما اعتبرته بعض التيارات داخل المملكة، "فكرا تكفيريا" و"مواقف متطرفة تدعو إلى العنف والتشدد"، خاصة وأن الشيخ محمد الفزازي، المدان بـ 30 سجنا نافذا على خلفية أحداث 16 ماي الأليمة، بعث مؤخرا برسالة مذيلة بتاريخ (21 يونيو 2009) إلى مسلمي ألمانيا، يدعوهم من خلالها إلى نبد العنف، معترفا حسب ما نسب إليه، باتخاذه منعطفا خاطئا في دعوته للمسلمين عندما كان إماما بمسجد القدس بألمانيا، كما خلقت هذه الرسالة، ردود أفعال متباينة في صفوف المعتقلين الإسلاميين المدانين على خلفية انتمائهم لتيار "السلفية الجهادية" بين من تأهب لمراجعة أفكاره السابقة، وآخرون لا زالوا يصرون على مواقفهم، على اعتبار أنها بريئة من الدعوات التكفيرية والخطابات الداعية إلى استعمال العنف.
بناء على هذا المستجد، جست "المشعل" نبض شيوخ ما يسمى بـ "السلفية الجهادية" وكذا بعض المعتقلين الإسلاميين داخل بعض سجون المملكة، حول إمكانية مراجعتهم لأفكارهم السابقة، وكذا مدى قابليتهم لترويج هذا الطرح فكان ما يلي:


تداعيات رسالة الفزازي التي خلقت جدلا بألمانيا


بعد فشل ما تم الترويج له مؤخرا بكونه حوارا مفتوحا بين بعض شيوخ " التيار السلفي الجهادي" وأطر في الدولة، حول إمكانية مراجعتهم لأفكارهم السابقة وطي صفحة الماضي، وكذا دخول شكيب بنموسى وزير الداخلية على الخط بإعلانه قبل بضعة شهور عن فتح باب العفو الملكي، في وجه بعض المعتقلين الإسلاميين شريطة إعلانهم "التوبة"، خرج الشيخ محمد الفيزازي المعتقل مباشرة بعد تفجيرات 16 ماي الدامية مؤخرا إلى العلن، بعد توجيهه رسالة إلى مسلمي ألمانيا، يحثهم فيها على نبد العنف واعتماد مبدأ السلم، حيث جاء في الرسالة المنسوبة إليه، اعترافه الصريح باتخاذ منعطف خاطئ في دعوته إلى المسلمين بإزالة الكفار من السلطة، عندما كان إماما لمسجد القدس، في مدينة هامبورغ الألمانية، وحسب ما كشفت عنه جريدة "دير شبيغل" الألمانية، أشاد الشيخ محمد الفزازي من خلال رسالته التي بعثها من داخل السجن، بدولة ألمانيا، واصفا إياها ببلد التسامح، كما قال وفق الجريدة الألمانية "اتخذنا منعطفا خاطئا وتجاوزنا الهدف"، مضيفا في نفس السياق أن "ألمانيا ليست ساحة معركة.. كل مهاجر لديه عقد مع الدولة الألمانية التي يجب التقيد بها.. ألمانيا لديها حرية العقيدة التي تغيب في العديد من البلدان الإسلامية"؛ وحسب بعض المحللين، حثت بعض فقرات الرسالة مسلمي ألمانيا على اعتماد أسلوب المهادنة، ودرء العنف والتشدد، كي يتصدوا لخطاب تنظيم القاعدة، الذي وعد مؤخرا بتركز هجماته على بعض الدول الأوروبية، خاصة دولة ألمانيا، في حين يشكك البعض في كون مضمون الرسالة التي بعثها الفزازي إلى ابنته المقيمة بالديار الألمانية، قد شابها نوع من التحريف، لكن تظل رسالته حسب العديد من المنابر الأجنبية التي تهافتت على نشر مضمونها، بمثابة "صك غفران" للشيخ الفزازي، حيث أجمعت تلك المنابر بما فيها آراء بعض المحللين المهتمين بشؤون الإرهاب، على أن محمد الفزازي "تراجع عن الفكر التكفيري للسلفية الجهادية".

مراجعة الأفكار والمواقف بين القبول والرفض من طرف معتقلي "السلفية الجهادية"


أعادت رسالة الفزازي إلى أذهان رموز "تيار السلفية الجهادية"، وكذا بعض المعتقلين الإسلاميين سيناريوهات "مراجعة الأفكار والمبادئ" التي ما فتئت السلطات تنادي بها كإعلان مبدئي عن ما سمي بـ "التوبة"، وقد جلجل خطاب الفزازي ليتردد صداه داخل أغلب سجون المملكة، باعتباره رمزا من الرموز المؤثرة في تنظيم، ظل الشيخ يرفض تسميته بـ "السلفية الجهادية".
وحسب ناطق باسم السجناء الإسلاميين المعتقلين على خلفية أحداث 16 ماي الأليمة بسجن عكاشة، أحدثت رسالة الفزازي شرخا في صفوف بعض المعتقلين، بين من أيد الشيخ في منحى مراجعة الأفكار المتشددة، وبين من أدار ظهره لها، على أساس أن العديد من المعتقلين ليسوا معنيين بتراجع الفزازي عن قناعاته السابقة، كونهم ظلوا في منأى عن الدعوة إلى إعمال أسلوب العنف وترويج الأفكار التكفيرية، يقول الناطق باسم المعتقلين الإسلاميين بسجن عكاشة، "فيما يخص ما ذهب إليه الشيخ الفزازي، هناك بعض الأتباع يتأهبون لسلك مساره، أي أنهم مستعدون لمراجعة أفكارهم ومبادئهم وكذا قناعاتهم، وهم يشكلون أقلية بين المعتقلين الإسلاميين في حين هناك فئة عريضة، تشكل أغلبية داخل السجن، إذ ترى بأن استغلال رسالة الفزازي والترويج من خلالها لفكرة "المراجعات"، والتركيز عليها، ما هي إلا محاولات غير بريئة من طرف بعض الجهات، قصد طمس الموضوع الرئيسي والقضية الحقيقية، المتمثلة في كون ملف المعتقلين الإسلاميين، (ملف مفبرك)، وأن العديد منهم تضرروا جراء صنع هذا الملف، بما في ذلك عائلاتهم".
ولمعرفة آراء بعض الحساسيات الأخرى المعتقلة أيضا جراء تداعيات تفجيرات 16 ماي الأليمة، بخصوص إمكانية سلك سبيل الفزازي، قال أحد المقربين إلى هذه الحساسيات، " لسنا مجبرين على إبداء رأينا في مسألة المراجعات وكذا ربطها بما أقدم عليه الشيخ، إذ من المفروض استفساره شخصيا، بحكم أنه المعني بالأمر"، لذلك حاولنا الاتصال بالشيخ محمد الفزازي، غير أن محاولتنا باءت بالفشل، وفي ذات السياق، امتنع الشيخ عبد الوهاب رفيقي الملقب بـ "أبو حفص" عن الخوض في موضوع المراجعات لاعتبارات ذاتيه، في حين أسر لنا أحد المقربين منه إلى أن فكرة المراجعات تتداول بشدة في صفوف بعض المعتقلين الإسلاميين بسجن عين قادوس بفاس، وحسب مصدرنا، إن الشيخ أبو حفص الذي تنعته بعض الجهات بكونه أحد المنظرين للفكر السلفي الجهادي بالمغرب، براء مما يتم الترويج له بكونه واحدا ممن اعتمدوا أسلوب المغالاة ونشر الفكر التكفيري بالمغرب، لذلك يقول مصدرنا، إن الشيخ أبو حفص قد جرد من ذهنه فكرة المراجعات، لكونه لا زال ثابتا على مبادئه، حيث ظل ينبذ العنف والأفكار الهدامة قبل وبعد اعتقاله.


لست معنيا بمراجعة الأفكار لأن مواقفي معروفة

حسب مصدر مقرب من الشيخ حسن الكتاني، يقول هذا الأخير فيما يخص المراجعات:
شخصيا، لست معنيا بفكرة مراجعة الأفكار، كما أن أفكاري معروفة، لم أكن في حاجة إلى حجبها قبل اعتقالي، كذلك الشأن داخل السجن، حيث لم أغيرها قط، زيادة على ذلك فأفكاري ومواقفي تضمنتها كتبي المنشورة حاليا أو التي قيد الطبع، لذلك لا أخفي أنني كنت أختلف مع بعض الناس في عدة أمور عندما كنت خارج السجن، أما إذا اتجه أحد ما إلى تغيير أفكاره فذاك شأنه، ثم إن تغيير الأفكار إن كانت (غلط) لا تعد عيبا، فالمغالطة السائدة، هي أننا نكفر الناس وندعو إلى الانفجارات العشوائية ولا نؤمن بالدستور أو الدولة المدنية أو بعض الأمور الأخرى، كالمطالبة بالاستبداد وما إلى غير ذلك، في حين إن هذا كلام فارغ لا يستند إلى وقائع صحيحة، فالقول إننا نكفر الناس هذا قول خاطئ، وكذب وبهتان، فنحن لم يسبق أن دعونا إلى التفجيرات العشوائية قط .. قبل أن يتم اعتقالنا، قلنا بأنه ليس لدينا مشكل مع الدستور أو النظام الملكي، ونحن ندعو كذلك إلى تطبيق الإسلام جملة وتفصيلا، في جميع الحياة العامة، كما لا نعارض أن يكون هناك دستور منظم مستمد من الإسلام، والمعروف ولله الحمد أن المغرب تبنى الإسلام منذ حوالي 14 قرنا، واعتمد المذهب المالكي المشهور، كونه أغنى مذهب من حيث القوانين والنظم، هذه هي أفكاري، لكن البعض ما فتئ يتهمنا بأفكار ليست لنا بها أية علاقة، كالتكفير وما إلى ذلك.
من جانب آخر هناك بعض الشباب ذوي الأفكار المنحرفة من تراجع عن أفكاره، بعد أن جالسناهم وبينا لهم حقيقة مواقفهم، فأن تجالسهم وتوضح لهم وتقنعهم وفق منطق العقل، يعطي الأمر أكله، أكثر مما يشرح لهم شخص آخر. فنحن قبل دخولنا السجن لم يكن لنا شغل آخر سوى هداية الشباب عن الانحراف والانزلاق، هذا ما قلناه للدولة، وفي بعض كتاباتي التي ستنشر مؤخرا، وضحت مسألة مهمة، وهي أنه لما حدثت هذه الفتنة وما أعقبها من اعتقالات حصدت العلماء المرشدين، تكوّن جيل جديد يتبنى أفكار منحرفة نظرا لغياب من يرشد ويعلم، ويبين لهم أموا كثيرة في الدين.

محمد ضريف أستاذ باحث في شؤون الجماعات الإسلامية
من له سلطة تقديرية للقول بأن شيوخ "السلفية الجهادية" راجعوا أفكارهم أم لا؟


- هل يمكن القول إن رسالة الفزازي التي بعثها مؤخرا إلى ألمانيا ستعيد من جديد فكرة مراجعة المواقف والأفكار السابقة لدى شيوخ ما سمي بـ "السلفية الجهادية"؟
+ حسب قراءتي الخاصة لما نسب إلى محمد الفزازي، فالأمر لا يندرج في إطار الرغبة في مراجعة الأفكار، بقدر ما يندرج في إطار تأكيد مواقف سابقة، إذ أن محمد الفزازي كما هو معلوم، كان ضد العنف وأصر على براءته من التهم المنسوبة إليه، فيما يتعلق بأحداث 16 ماي 2003، والأكثر من ذلك كان يشدد أثناء محاكمته على أنه كان يخدم مؤسسات الدولة، وعلينا هنا أن نستحضر ما كان يقال سابقا، على أن جماعة السلفيين بشكل عام، كانت أداة في يد الدولة خلال مرحلة من المراحل، من أجل مواجهة قوى دينية أخرى، لذلك لاحظنا بعد المحاكمات وكذا عندما بدأ الحديث عن إمكانية تدشين حوار بين الدولة والسلفيين، أن مجموعة من السلفيين المعتقلين يرفضون فكرة المراجعات. لأن هذه الأخيرة بالنسبة إليهم، هي مدخل لتثبيت التهم الموجهة إليهم، لأنه عندما يقر شيخ من شيوخ السلفية الجهادية في بعض السجون المغربية بأنه مستعد لمواجهة أفكاره، فهذا يثبت بالملموس بأنه كان يتبنى أفكارا تدعو إلى العنف، لذلك لاحظنا من خلال خطابات وكذا مواقف السلفيين المعتقلين، أنهم كانوا يرمون دائما بالكرة في ملعب الدولة، بحيث كانوا يطالبونها بمراجعة مواقفها منهم، كما يعتبرون بأن اعتقالهم اندرج في سياق حسابات سياسية وأمنية، وأن هناك جهات معينة كانت لها مصلحة في إلصاق التهم بهم وإقحامهم في ملف العنف والتطرف والإرهاب، كما ظل شيوخ السلفية يؤكدون رفضهم للعنف وتنديدهم به، وقد صدرت إشارات كثيرة من بعض السجون عقب بعض الأحداث التي عرفها المغرب بعد ذلك، أو حتى فيما يتعلق ببعض الاعتداءات التي استهدفت دول عربية وإسلامية، لذلك فما نسب إلى الفزازي ليس تعبيرا عن رغبة في مراجعة أفكاره، بقدر ما هي رغبة في تأكيد مواقفه الرافضة للعنف.

- هل ستدفع رسالة الفزازي الشيوخ المعتقلين إلى الاستعداد لمراجعة المواقف؟
+أعتقد بأن شيوخ السلفية بالخصوص، وأتحدث هنا عن عمر الحدوشي، حسن الكتاني، أبو حفص وعبد الكريم الشاذلي، فهؤلاء الأشخاص ليسوا في حاجة إلى انتظار صدور رسالة عن الفزازي ليغيروا مواقفهم، إذ سبق لكثير منهم أن أبدوا مواقف تدعو إلى نبذ العنف، فأبو حفص مثلا، دأب دائما على نفي صفة المتطرف المنسوبة إليه، حيث ظل يؤكد أنه لم يدع إلى العنف أبدا، وهذا لم يمنعه من توجيه رسالة أو نداء إلى بعض السلفيين، يدعوهم من خلالها إلى الابتعاد عن العنف، كما يقر بأن بعض الشباب فهموا الدعوة بشكل خاطئ ومارسوا العنف.

- البعض يتحدث عن سوء الفهم بين الدولة والسلفيين، أي أن السلطات تطالب المعتقلين الإسلاميين سيما الشيوخ بمراجعة الأفكار، في حين إن هؤلاء يقرون بأن أفكارهم واضحة ولا ضرورة لمراجعتها مادامت تنبذ العنف، هل يمكن القول إن هناك سوء فهم بين الدولة ودعاة الفكر السلفي؟
+ عندما نتناول الفكر السلفي الجهادي، فإننا نتحدث عن رفض الديمقراطية والانتخابات والمؤسسات، باعتبار أن كل رموز الحداثة السياسية تتنافى مع التصور الإسلامي، وهذا الأمر وارد، إلا إذا كنا نطالب هؤلاء الأشخاص بأن يصبحوا ديمقراطيين، وأعتقد أن هذا مطلب غير معقول، سيما وأن هؤلاء من حقهم أن يعتنقوا الأفكار التي يؤمنون بها، شريطة ألا تتحول هذه الأفكار إلى فعل يهدد حياة الآخرين، فالمشكل المطوح الآن، وهنا أتحدث عن سوء الفهم، هو ماذا يقصد بالمراجعة، فإذا كانت الدولة تقصد من خلال ذلك أن ينبذوا العنف، فإنهم كانوا دائما يرفضون العنف، وإذا كانت تطالب بالاعتراف بشرعية المؤسسات، فقد ظل الشيوخ على الدوام يشيدوا بأنهم كانوا من المدافعين عن مؤسسات الدولة، والأكثر من ذلك يشيدوا على أنهم انخرطوا في مشروع الدولة في مواجهة قوى دينية مناوئة لمشروعها، وإذا كانت تطالبهم بأن يتحولوا إلى دعاة للديمقراطية والحداثة، فهذه مسألة أخرى، في هذا الإطار، نتحدث عن سوء الفهم، أو الالتباس الموجود بين مطلب الدولة وما يؤمن به الشيوخ، والإشكال الحقيقي في هذا الباب، هو من له سلطة تقديرية للقول بأن هؤلاء راجعوا بالفعل أفكارهم أم لا؟

عبد الرحيم مهتاد : رئيس جمعية النصير لمساندة المعتقلين الإسلاميين
ليس كل المعتقلين الإسلاميين معنيين بمراجعة الأفكار

- بعث الشيخ محمد الفزازي مؤخرا رسالة، يدعو من خلالها مسلمي ألمانيا إلى نبد العنف، ما هي قراءتك لفحوى هذه الرسالة؟
+ بسم الله الرحمان الرحيم، لقد اطلعت على الرسالة من خلال بعض وسائل الإعلام، ولا ادري لماذا تم إعطاؤها هذه الأهمية، هل لكونها نشرت بصحف ألمانية؟ أم لأنها تتناول كلاما موجها إلى أناس خارج المغرب؟ أما الحقيقة، فان تصريحات الشيخ محمد الفزازي ومواقفه التي اعتمدت في الرسالة كأنها شيء جديد، لم تكن سوى تأكيد لما يؤمن به الرجل وبما صرح به مرارا، وآخرها أثناء استدعائه للإدلاء بشهادته في محاكمة الشيخين أبي حفص والشيخ حسن الكتاني ( شهر مارس الماضي)، ناهيك عما أورد من بيانات ورسائل يوضح فيها مواقفه الصريحة من العنف والأحداث الدامية التي شهدتها مدينة البيضاء. وإن كان من قراءة لهذا الموضوع، فان الرجل لما استعصى عليه سماع أهل الدار (المغرب)، قام بمحاولة لتصريف مواقفه عبر الآخر ( أوروبا) لتجد صدى وتجاوبا.

- هل هي فعلا تعبير صريح من الشيخ على تراجعه عن أفكاره السابقة؟
+ الرجل ينفي أية تهمة ألحقت به ظلما وزورا، وكيف يمكن القول بـ ( تراجعه عن أفكاره السابقة) وهو الذي يؤكد دائما انتماءه للدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ويضع نفسه مع أهل العلم والسداد.

- هل يمكن القول إن شيوخ السلفية الجهادية على أهبة الاستجابة لنداء شكيب بنموسى السابق الداعي إلى مراجعة شيوخ السلفية الجهادية لأفكارهم وتراجعهم عن مواقفهم السابقة كشرط للاستفادة من العفو الملكي؟
+ شيوخ السلفية الجهادية ( وهذه تسمية اجعلها بين قوسين لان منهم من يرفضها كما يرفض أن ينعت بها)، ومنذ الإضراب العام عن الطعام الذي خاضه المعتقلون الإسلاميون شهر ماي 2005 والذي على إثره قامت الإدارة العامة السابقة على تفريقهم وإبعادهم عن بعضهم البعض ووضعت كل واحد منهم بسجن، بل وفي بعض الأحيان في عزلة، فمنذ ذلك الحين بدا إشعاعهم يخبو ولم نعد نسمع لهم إلا عن بعض المواقف من حين لآخر، ولم تسعفهم ظروف الاعتقال (المفروضة عليهم) لا في اتخاذ مواقف موحدة ولا حتى في الاستمرار في التأثير في باقي المعتقلين، وفي ظل مجموعة من المعتقلين لم يكن يجمع بينهم من قبل لا تنظيم موحد ولا كانوا أجمعهم أو اغلبهم على نسق فكري واحد، فكيف يمكن تصور وقوع مراجعات أو نجاحها بالمرة؟

- بحكم اطلاعكم على أخبار "السلفيين الجهاديين" داخل السجون المغربية، هل لمستم تغييرا في مواقفهم وكذا استعدادهم لمراجعة الذات ونبذ العنف؟
+ من الصعب القول بذلك، فالمعتقلون الإسلاميون بالسجون المغربية ليسوا وحدة فكرية أو كان لهم سابق انتماء إلى تنظيم مهيكل كانوا يعملون من خلاله، حتى يكون الحكم بالجملة، فالقاسم المشترك بين هؤلاء الناس هو أداء الفرائض وشعورهم بالمظلومية، وعليه وجب تصنيف هؤلاء الناس، فمنهم من ليست له علاقة لا بالفكر ولا بالمراجعات، وسبق له أن تقدم بطلبات العفو وجهر بمظلوميته، وما على الدولة إلا أن تعيد النظر في اعتقال هؤلاء، وهناك الفئة المتورطة مباشرة في بعض الأعمال المخالفة للقانون، وهؤلاء اعترفوا بما اقترفت أيديهم أمام المحاكم ونالوا أحكاما في الغالب لا تتناسب وما اقترفت أيديهم، وهناك فئة قليلة من هؤلاء المعتقلين تمت محاكمتهم على خلفية أفكارهم، وهؤلاء هم المعنيون بالمراجعة، وللأسف نجدهم عاكفين في زنازينهم لا يكلفون أنفسهم حتى التواصل مع وسائل الإعلام أو الجمعيات الحقوقية من اجل تبيان أفكارهم والدفاع عنها أو التراجع عنها، فهم الغائبون في الواقع، الحاضرون وسط المعتقلين بتأثيرهم الفكري والاديولوجي، وهم الذين يستغلون سطوة وقسوة إدارة السجون، والأحكام الطويلة وقسوة الواقع المعاش لدى أغلب المعتقلين( سواء تعلق الأمر بهم أو بأسرهم وأطفالهم) لكي يذكوا روح التمرد والكراهية في باقي المعتقلين، مستغلين في ذلك سياسة الباب المسدود التي فرضتها الدولة المغربية من خلال تراجعها عن تمتيعهم بالعفو أو استفادتهم من إعادة المحاكمة، وهذا هو التيار الذي أخد يتبلور بالسجون وأخذنا نسمع لهم عن خرجات وبيانات (مجهولة المصدر) في بعض المواقع الإسلامية الجهادية على الانترنيت.

- يروج في أوساط بعض المعتقلين الإسلاميين أن هذا الخطاب، ما هو إلا صنيعة الأجهزة الأمنية التي تحاول من خلاله تهيئ بعض السلفيين لمراجعة مواقفهم، هل يمكن أخذ هذا الرأي بعين الاعتبار؟
+ التجربة المغربية في هذا الباب تختلف عن باقي التجارب في بعض الدول العربية الأخرى، والدولة المغربية هنا قد أوكلت إدارة السجون وإعادة الإدماج إلى طاقم متخصص، له باع طويل في الموضوع، وألحقته مباشرة بالوزارة الأولى، وهي بذلك قد وضعت هذا الملف جانبا (في الثلاجة) في غياب أي تضامن فعلي من طرف المجتمع المدني الوطني والدولي مع هؤلاء المعتقلين، وبذلك سيكون لها متسع من الوقت لكي تفرض شروطها على هؤلاء، ولن تسرح منهم إلا من أتم مدة حكمه بالكامل أو قبل بشروط التعايش (حسب المفهوم المغربي) دون قيد أو شرط، ولا هي في حاجة إلى مراجعاته، هذا ما يبدو حتى الآن من أفق لكل هذه الضجة، وربما تغيرت الأوضاع غدا أو بعد غد، من يدري؟ خصوصا وأن هذا الملف يتفاعل مع المعطيات الدولية، سلبا وإيجابا.

almichaal hebdo

الكرابة عاطشون






إنها حرفة ليست ككل الحرف، وممتهنوها يختلفون في هندامهم وسلوكاتهم عن كل الحرفيين، تختلف نظرة المجتمع لهم، فمنهم من ينظر إليهم، أنهم امتداد للمحافظة على نوع من التراث بدأ في الإنقراض، ومنهم من ينظر إليهم على أنهم مجرد متسولين في لباس ليس على مقاسهم، إنهم الكرابة، أو الفئة التي تعاني في صمت، كما يعاني العديد من أبناء هذا الواطن، فكيف تعيش هاته الفئة؟ وكيف تتدبر مصدر رزقها خصوصا في الفترات القاتلة كفصل الشتاء وشهر رمضان الذي يقل فيه الإقبال على شرب الماء؟ وهل من قانون ينظم هاته الحرفة؟ وما هي شروط الإنضمام إليها؟ وما هي استراتيجية الدولة للحفاظ على مهنة تستهوي السياح ويشمئز منها أبناء البلد؟ وهل فكرت الدولة يوما ما في تأطير مهنة آيلة للإنقراض وتعتبر إحدى أهم الدعامات لشد السائح خصوصا ونحن نراهن على 10 ملايين سائح؟ كلها أسئلة وأخرى حركتنا للنبش ولسبر أغوار هاته المهنة الفريدة التي دخلنا إلى عالم أسرارها واكتشفنا حقا عالما فريدا ومتميزا ومليئا بالإثارة والمتابعة فعندما تتحول القربة من قربة ماء إلى قربة خمر فانتظر المفاجأة.

محمد الخبار أمين الكرابة بجماعة درب السلطان
الكراب الحقيقي لا يتسول


قبل ان التحق بعملي ككراب سنة 1971، كنت أعمل بالميناء، وكانت آنذاك تجمعني علاقة قوية بأحد بائعي الماء (الكراب). وبعد أن تخليت عن عملي بفعل مجموعة من المشاكل، اقترح علي هذا الصديق أن أعمل معه ككراب، ترددت حينها، لكنني سرعان ما وافقت وقررت أخيرا أن التحق بالمهنة الجديدة والتي كانت في ذلك الوقت مهنة مميزة ويلقى ممارسها احتراما خاصا من جميع الفئات العمرية. بعد أن اقتنيت العدة بمبلغ يتراوح ما بين 250 درهم، ولجت المجال بروح تواقة للعمل بجد في سبيل الرفع من مستواي المعيشي وهو ما يجعلني أكثف من جولاتي داخل المدينة وخارجها إلى أن اهتديت إلى فكرة أخرى، إذ بدأت ازاوج ما بين عملي ككراب وبائع متجول للعصير، إذ كنت احصل يوميا على مبلغ 35 درهما والتي كانت تمثل حينها دخلا مهما.
وخلال ممارستي لهذه المهنة وتعرفي بالكثير من أهل الحرفة، ربطت علاقات طيبة مع زملائي واكتسبت خبرة كبيرة وسمعة طيبة مما أهلني لشغل منصب أمين الكرابة بعد 15 سنة من العمل بها. وهذا المنصب كان بمبادرة من مجموعة من زملائي أبوا إلا أن يختاروني لأمثلهم وأعمل على حل المشاكل المتعلقة بمشتغلي هذه المهنة.
تحدث خبار محمد عن مهام أمين الكرابة أنه انسان ابن الحرفة يحرص دوما على مزاولتها، كما يدخل في مجال اختصاصه كل الكرابة الذين يزاولون مهنتهم بالمنطقة التي يعمل بها هو أمينا، إذ يقتصر عمله على فض النزاعات بين الكرابة وإذا لم تفلح مساعيه في حل بعض المشاكل يحولها على السلطة المحلية بالمنطقة. كما يهتم بالوافدين الجدد على المهنة حيث يساعدهم في الحصول على بطاقة مزاولة مهنة الكرابة وحصولهم على الدفتر الصحي.
ومن جهة أخرى يؤكد خبار على الوضعية المزرية للكراب والتي بدأت تندثر بفعل ما طالها من تهميش خاصة وأنها تزاول مهامها في غياب التغطية الصحية والاجتماعية.
لا يخفي هذا الاخير أمله الكبير في أن تقنن مهنة الكرابة لتدخل في إطار مهني يضمن حقوق مزاوليها والتي تعتبر فلكلورا مغربيا أصيلا وحرفة لها جذور ضاربة في القدم. كما ينفي أمين الكرابة أن يجمع الكرابة أية صلة بمن يتسولون بالحافلات ومن يعترضون طريق المارة بالاستجداء والتسول حيث يقول عنهم "الكراب الحقيقي ما تايمدش إيديه للناس ولا يعرض وجهه للبيع" وهنا يسترسل قائلا المتسولون ببدلة الكراب لا يمثون بصلة للكرابة، فهم متحايلون فقط وليست لهم غيرة على هذه الحرفة الاصيلة. وهذا ما يدحض الزعم القائل بأن الكراب بعد فصل الصيف وخلال شهر رمضان لا يجد بدا من التسول، فهذا زعم خاطئ، لأنني ومنذ 35 سنة قضيتها بالحرفة مع مجموعة كبيرة من زملائي لا نتوقف عن العمل لا في فصل الشتاء ولا في رمضان. إذ أننا نعمل على بيع الماء والعصير بشكل دائم أمام المدارس، أو داخل الاسواق خاصة للأطفال الصغار الذين يثيرهم شكل الكراب وينبهرون بلباسه مما يجعلهم يقبلون عليه مهللين بمقدمه وهو يقرع ناقوسه الذي يؤدن بحضوره أينما حل وارتحل.

كراب ينافس نجومية عمر الشريف

يبدو المعطي يزادي أكثر بهجة وسرورا وهو يسرد تفاصيل التحاقه بعمله ككراب في يوم صيف قائظ، اصطحبه أباه خلاله إلى أحد الأسواق الأسبوعية كمتدرب لمدة أسبوع قبل أن يقتني عدة الكرابة، لينطلق في عمله والذي قضى به ما يقرب من 27 سنة. هذا الرجل الذي يلقبه زملاءه بالشريف ينحدر من منطقة تاحناوت، تفانى لسنوات خلت في تأدية مهمته. شعور بالزهو والحبور لا يفارقه خاصة وهو يزاول مهنة تساهم في تقديم خدمة للناس وهي تقديم الماء للعطشان، كما ينال بها الكثير من التواب وهو يسقي ملائكة القلوب وهم الأطفال كما يحلو له أن يسميهم. والمعطي معروف بالمنطقة التي يزاول بها حرفته، إذ أن الكل يعرفه والأطفال لا يكفون عن مناداته وهنا يعبر المعطي بمزاح خفيف الظل قائلا : "حتى أنا مشهور وكل الناس تايبغيو يتصورو معايا، داكشي باش تيحسدني عمر الشريف" خاصة وأن الشبه بينه وبين الفنان العالمي عمر الشريف كبير جدا.
وعن ظروف عمله وما تدره عليه مهنته من مال يقول أنها مهنة محببة إلى قلبه وأنه لم يتسلل إليه ولو مرة واحدة في حياته هاجس تغييرها بحرفة أخرى لأنه وعلى حد قوله قد شرب الصنعة وتشبع بها وأصبحت قربته زاده ومؤنسه أمام هذه الحياة المتمدنة والتي يصفها بقوله "الدنيا بسالت ملي فرطنا في الأصالة والأشياء القديمة".

نجمة في سماء الكرابة

فاطمة الجديدية امرأة في عقدها الخامس، ترتدي بدلة الكرابة وتجوب شوارع البيضاء، لا يثنيها عن عزمها ثقل قربة الماء ولا ضجيج الاواني النحاسية التي تتصادم فيما بينها.
تمشي بخطى تابثة وعزم أكيد على مواصلة المشوار الذي دشنه زوجها الحاج والذي كان كرابا إلى أن وافته المنية، فعزمت فاطمة على مواصلة العمل بحرفة زوجها وهكذا أخذت عدة الشغل وجربت حظها مع الحياة التي تصفها بأنها لا تبتسم لها إلا لماما.
تقطن فاطمة بمدينة الجديدة وتعمل بالبيضاء ككرابة، إذ تقضي أسبوعين لتلتحق بأبنائها الذين تتركهم في رعاية أمها لتبحث هي عن مصدر رزق هذه الكتل البشرية. فاطمة الآن تبدو أقل ضجرا من مهنتها كما كانت عليه من قبل، إذ أنها كانت تحس إحساسا غريبا وهي المرأة الوحيدة التي تلج هذا الميدان خاصة مع تعليقات المارة المحرجة، لكنها الآن تغلبت على هذه العقبات وصارت تستيقظ كل صباح، لتنظف عدتها وتستعد للخروج نحو وجهتها بعد أن تتوكل على الله وتطلب منه أن يكون يوما أحسن من سابقيه.
وعن أماكن اشتغالها تقول، أنها لا تركز على مكان أو منطقة معينة، فكل أرض الله ممهدة للبحث عن الرزق، فمادام الإنسان معافى إلا وهو مطالب بالعمل، لأن العمل عبادة. ولا تخفي فاطمة امتعاضها من المتسولين الذين طوقوا المدن والأسواق خاصة الفئة المعافاة والقوية، وهنا تتساءل عن سبب عزوف هؤلاء عن الاشتغال بدل إزعاج الناس والاستجداء، وعن ظاهرة استجداء الكرابة في رمضان نقول "اعطى الله مايدار، ما كاينش غير السعاية" وتعني بكلامها هذا أن العمل متواجد وعلى الانسان أن يعمل بأي عمل حتى يجد العمل المناسب وأن لا يتكل على الآخرين ويطلب الصدقة، فالصدقة في غير المعطوب غير جائزة".
عمل فاطمة بمهنة أغلب ممارسيها رجالا، لا يشكل بالنسبة لها أي حرج خاصة وأنها لم تلجها عن رغبة واختيار، بل فرضتها عليها الظروف وهي الأرملة والأم ل٣ أطفال، لكنها اليوم تعتز بعملها وكدها لانتزاع لقمة اطفالها بعيدا عن الحاجة والتسول كما تضيف أنها تحس بفخر كبير لكونها أول نجمة في سماء عالم الكرابة الذي لا يلجه سوى الرجال وهذا ما رسخ لدى الجميع احتراما كبيرا لها ولعملها وما يسهل لها مأمورية جذب الكثير من الزبائن الذين لا يتورعون عن سؤالها عن سبب عملها ككرابة وأنها أول كرابة يراها الناس ممن تعودوا على الرجال من هذا المجال، خاصة أن الكثير من السياح يفضلون أن يأخذوا صورا تذكارية معها وكذلك المواطنون، فحب الناس يزيد من تمسكها بمهنتها، مع وجود محسنين يعلمون ظروفها ويعملون على مساعدتها ماديا وشراء الملابس والكتب لأبنائها مع حلول الموسم الدراسي.

كراب أبا عن جد

خلوق بويا، كراب محترف قضى ما يناهز 35 سنة بالمهنة التي زاولها بالعديد من المدن المغربية ليستقر بالبيضاء. بعد مغادرته لمسقط رأسه سيدي بنور، اختار مهنة بائع الماء والتي يقول عنها، أنها مهنة الانسان البسيط المسكين الذي يسير بحذر بجانب الحائط وبحثا عن لقمة العيش غير عابئ بفصول السنة، فكل أيام الله جميلة على حسب قوله، لكن يبقى على الانسان أن يتسلح بالصبر والكفاح وأن لا يتقاعس. فالله يرزق الانسان من حيث لا يعلم. ويصرح بويا بأن آفاق هذه المهنة مفتوحة على عدة مجالات أخرى، إذ الكراب يرتبط بمجموعة من الأنشطة كالأعياد وحفلات عيد العرش حيث تنشط الحركة التجارية وكذلك داخل الملاعب الرياضية وهي فرصة للتقرب من الاحداث الرياضية ومزاولة المهنة مع الأعداد الهائلة من الأفراد التي تكتظ بها جنبات الملاعب هذا فضلا عن العمل بالأعراس إذ يعتبر الكراب الذي تكثر عليه طلبات العمل بالأعراس محظوظا مقارنة بزملائه ، بأنه عمل سيذر عليه مبالغ مهمة إضافة إلى ما سيجلبه معه من مأكولات وحلويات بعد قضاء يوم ممتع في الحفل. وعن الجانب المتعلق بالنظافة، يؤكد خلوق بأن هندام الكراب مرآة لسلعته المعروضة، فإن كان وجهه مشرقا تهافت عليه الناس باعتبارنا من يوصله للناس، لذلك نحن مطالبون بتنظيف الأواني التي يوضع بها وكذلك عن فلكلورنا المغربي أمام السياح، لا أن نجعلهم يستهينون بنا في جانب النظافة وحول هذه النقطة يقول بأن الجماعة كانت تلزم على كل الكرابة في منتصف السبعينات أن يؤدوا مبلغ 35 درهما قبل أن يعفى الكراب من هذا المبلغ. وذلك مقابل الاستحمام كل جمعة وملء قرب الماء، إذ تكون فرصة لمراقبة عمل الأشخاص واعتنائهم بنظافة هندامهم ومدى صلاحية الماء الذين يحملون بقربهم. ويختم بويا كلامه باعتزازه بمهنته ككراب والذي توارتها أفراد أسرته أبا عن جد، إذ أشار إلى العدة التي يحملها والتي كانت بحوزة جده الذي تركها بدوره لابنه لتنتقل للجيل الثالث والذي يمثله بويا خلوق المتمسك بمهنته والعارف بأصولها، إلا أنه يتحسر لما آلت إليه هذه المهنة بعدما غزاها المتطفلون الذين يبادرون إلى شراء بدلة الكراب، ليتحايلوا بها على الآخرين وبالتالي الحصول على النقود بأي طريقة حتى لو كانت تسئ إلى أهل الحرفة الحقيقين والذين طالما ناضلوا من أجل أن تبقى محافظة على مكانتها داخل النسيج الثراتي والفلكلوري المغربي.

من قربة ماء إلى قربة خمر


خلال شهر رمضان، يعمد ميلود إلى وضع قربته على الأرض مرفقة بمجموعة من الصور الشخصية والتي يعرضها على المارة علهم يجودون عليه ببعض السنتيمات خاصة وأنه يتوقف عن عمله ككراب خلال رمضان لصالح مهنة جديدة يقول عنها "مالقيت ماندير، حرت وحارت بيا الدنيا" ويكمل حديثه عن استيائه الكبير وهو يتسول أمام الناس في انتظار ما يجدون عليه به أمام انسداد الأفق أمامه، فلو كان لديه بديل لما عمد إلى استجداء الناس وهو ابن العائلة المحترمة الذي كان يعيش قبل وفاة والدته. صحبة عائلته باب جرير، إلا أن الزمن لم يرحمه وطوحه بعيدا إلى عالم الفقر والحاجة وصنع منه متسولا بعد أن كان يعيش كريما مع عائلته وبعمله ككراب وهو ما يجعله يقول أن رمضان شهر الغفران، لكنه يقهر الكراب ويجعله يعد الأيام والثواني لرحيل الشهر حتى يعود لمهنته التي تغنيه عن التسول أمام قلوب من حجر، قلوب أقل ما يصفها به أنها تكره المحتاج وتسحقه سحقا بكلامها الملفوف بعبارات كالمتفجرات، تطلق سهامها إلى هؤلاء الناس الذين لا ذنب لهم سوى أنهم فتحوا انفسهم ليجدو قطار الزمن قد رحل عنهم وتركهم حتالات تقتات على فضلات الأخرين، الذين لا يدخرون جهدا في احتقارهم كلما سنحت لهم الفرصة بذلك. وهو الأمر الذي يحز في نفسه وهو الذي يتعفف عن مجموعة من الدعوات التي توجه إليه للعمل مع فرقة "الشيخات" كراقص، لأن طبعه لا يسمح له بالقيام بهذه الأعمال، كما أنه يتعفف على ما يقوم به البعض، إذ أن البعض ممن ينتحلون صفة كراب، يعملون في الأعراس بملء قربهم بأنواع الخمر، ليسقوا المدمنين عليه والذين يؤكدون على أن خمر القربة أحلى من العسل الحر، فيضل الكراب يطوف بقربته بين السكارى والمخمورين وهم يسخرون منه تارة ويمازحونه تارة أخرى، فأنا لا أقبل على نفسي أن أكون مهزلة ولعبة لتسلية المخمورين ومعاقري النبيذ، أفضل أن أستجدي الناس على أن أدار ككرة بين رؤوس "السكارى المسطولة".
يودعنا عبد المولى بكلمات حانقة ومخنوقة من وضع معيشي مزري لإنسان لازاد له سوى رغبته في العيش والبحث عن موارد الرزق في الوقت الذي أقفلت فيه كل الأبواب ولم يبق أمامه إلا باب التسول الذي هو الآخر لا يخلو من مشاكل خاصة داخل الحافلات التي تعرف سيطرة كبيرة للأفارقة الذين ينتشرون بدون رقيب أو حسيب بحافلات النقل والأسواق والشوارع والذين يقول عنهم أنهم أزموا أوضاع المتسولين ونافسوهم في لقمة رزقهم بدون أن تتدخل السلطات لتحد من نزيف الأفارقة الذي غطى كل المناطق التجارية والاقتصادية، إذ أصبحوا يمثلون السواد الأعظم من المتسولين، وأحيانا كثيرة نجد المتسولون يشفقون على هؤلاء الأفارقة ويتعاطفون معهم مجسدين مثل "ما قدو فيل زادوه فيلة".

من كراب إلى طلاب

يعتبر محمد علي رجل تعليم أن المجتمع اليوم ليس في حاجة إلى الكراب، متسائلا حول ما أهمية وجود بائع للماء في وقت يتواجد فيه الماء. فالكرابة يمكن اعتبارها فلكلورا يناسب السياح. وهذا ما يجعل الدولة ملزمة بأن توليهم العناية اللازمة حتى يظهروا بمظهر أحسن خاصة فيما يتعلق بجانب النظافة، إذ أن أغلب الكرابة نجدهم يرتدون هنداما متسخا ولا يهتمون بنظافة القرب وأواني الماء وأن تراقب نظافة الماء وأن تحد من انتشارهم إلا في بعض الأمكنة التي لا يتوفر فيها الماء كالشواطئ مثلا، أما في الشوارع والأسواق، فمظهر الكراب لا يدل إلا على إنسان متسول لاغير، فأغلبهم يلاحقون المارة خلال شهر رمضان بكلام كله دعاء من قبيل "الله يرحم والديك" وهي عبارات للاستجداء وعادة ما تزعج الأفراد ناهيك عن بعض الممارسات التي يتعمدها هؤلاء الأشخاص، حيث يعمدون إلى مد أكواب الماء للأطفال لإحراج أبائهم كي يؤدوا ثمن ذلك الماء.
يكمل محمد "عن نفسي أرفض أن اقتني ماء الكراب وذلك لأنه لا توجد ضمانات على صلاحيته ونظافته وأن هذه المهنة يسمح بممارستها للعجزة فقط أما كرابة اليوم فهم يملكون لياقة بدنية تؤهلهم للبحث عن عمل آخر بدل إفتعال المواقف والتظاهر بالبؤس لإبتزاز الناس، وأغلب الكرابة خلال رمضان يتحولون إلى طلابة يتسولون في جميع المناطق وما أكثر المتسولين في هذا البلد مما يدل على أن كل خطط الحكومة لمحاربة الفقر فاشلة.

سوق البشرية


يرى العلالي، 53 سنة، أن الكراب رجل مهم، لا تقدر الدولة قيمته، لأنه ضل متشبتا بزيه التراثي رغم تغير الزمان دون أية ضمانات تذكر، فهو يدافع عن التراث والفولكلور وهذه مسؤولية تتحملها وزارة السياحة ومع ذلك لازلنا نكافح من أجل أن تستمر هذه المهنة وأن لا يطالها الإنقراض إن لم نقل بدأت تنقرض تدريجيا في غياب الإهتمام بالجانب الاجتماعي للكراب على مستوى التغطية الصحية والاجتماعية خاصة وأنه يتعيش من هذه المهنة. والسياح يحتفون بنا ويهتمون لحالنا أكثر من أهل بلدنا، وهنا نقول "النصارى معاهم الخبز ودياولنا تايكلو خبزنا بلا حشمة بلا حيا، وعارفين مزيان على من تايحكروا، النمل الكبير تياكل الصغير".
يسترسل العلالي في صب جام غضبه على أوضاعه الاجتماعية وهو أب لثلاثة أطفال يعيش مأزقا ماديا خانقا زاد من حدته دخول رمضان الذي يعتبره يشل حركة بيع الماء، لينخرط الكراب بدورة في سوق البشرية باحثا عن مورد رزق جديد في انتظار أن يعود لعمله الأصلي بعدخروج رمضان وهو ما يجعل العلالي يعمل نهارا بحمل صناديق البضائع، ليرتدي زيه مساءا وينتشر باحثا عن رزقه في اتجاهات مختلفة.

800 درهم تحولك إلى كراب

"زي العمل والعدة يكلف حوالي 800 درهم وهو مبلغ مكلف مقارنة بما كان سابقا فالعدة من قبل كانت تكلف حوالي 350 درهم، أما اليوم فقد ارتفع ثمنها، وهذا ما جعلنا لا نغيرها حتى لو ظهرت بها بعض علامات التمزق أو غيره فإننا نقوم بترميمها بدل شراء عدة جديدة لأنها مكلفة وهذا ما ينطبق كذلك على الكرابة الجدد ممن يرغبون في ولوج المهنة، إذ يكلفهم ذلك 800 درهم كما قلت سابق فضلا عن انجاز بعض الأوراق التي تطلبها منه الجماعة".
يتساءل العلالي باستغراب كبير عن المتطفلين على الميدان الذين يشترون هذا الزي ليتظاهروا به أمام الناس بغية استجداء الأموال وطلب الصدقة. فيجيب قائلا "لا بد أنهم يحصلون على مبالغ تضاهي ما صرفوه لاقتناء هندام الكراب وإلا كيف يضيعون أموالهم هكذا بلا نتيجة. ويقول على هؤلاء أنهم يسيؤون إلى المهنة، وأنه على باب الالتقاء بالكرابة أن يقنن وأن لا يظل مفتوحا في وجه كل من هب ودب حتى يتم تحصين المهنة ممن يسيؤون إليها ويشوهون صورة الكراب ويجعلوه يسقط في نظر الناس وخاصة الأطفال الذين يحبون هذا الشخص ويبادرون إلى تحيته والابتسام في وجهه.

الأعراس تنعش الكرابة

يتحدث لمفضل عن عالم الكرابة باستياء كبير وحسرة شديدة على ما آلت إليه أوضاع الكرابة وأحوال المهنة، إلا أن الأعراس والحفلات ساهمت بشكل كبير في انتعاش هذه المهنة، حيث استعانت مجموعة من الفرق الموسيقية بالكراب كعنصر جمالي في الاحتفال بالأعراس وهكذا بدأ الكرابة يتهافتون على مثل هذه العروض وهذا ما حفزهم إلى العناية بشكل أكبر بهندامهم وتلميع صورتهم التي بدأت تضمحل أمام أوضاعهم المحزنة وما يعيشونه من ضنك العيش والفقر تكثر في هذا النوع من العروض خلال فصل الصيف بالنسبة إليه للبحث عن المزيد من الموارد المالية الخاصة وأن الحركة تنقص في فصل الشتاء بشكل كبير مما يخلف مشاكل كبيرة لدى هؤلاء الكرابة. وواقع الحال يظهر ما يتخبطون فيه من فقر وعوز وهو يترجم بإقبالهم على استجداء الماء إما بشرب الماء أو لإعطائهم الصدقة وذلك تحت ضغط الحاجة التي تضطرهم إلى ممارسة مثل هذه السلوكات. الكراب يعاني اليوم أكثر من أي وقت حرفة أخرى من مشاكل عديدة تساهم تدريجيا في تحول مجموعة من الكرابة إلى امتهان مهن أخرى وبالتالي تنقرض الكرابة والتي تساهم بشكل كبير في جذب السياح وإقبالهم عليها نظرا لطابعها الخاص والمميز لتراثنا المغربي. وعلى الجهات المعنية أن تولي اهتمامها لهذه الشريحة المجتمعية التي أصبحت أوضاعها تعلن عن جسامة أوضاعها الاجتماعية وما يعتريها من بؤس وفقر وهنا يعقب كلامه بقوله "راحنا من هاذ البلاد، وخاصنا حقوقنا بحال كل الحرايفية وإلا يحيد والكراب ويمنعوه من مزاولة المهنة".

كراب بامتياز

العربي. ط، 51 سنة، زاول حرفة الكرابة منذ 1963 بمدينة خريبكة ليلتحق فيما بعد بمجموعة من المدن المغربية والتي تقول عنها، أنها حرفة تتطلب الذكاء لاصطياد الزبائن ودراسة لأماكن الاشتغال والتي تتغير بتغير الفصول والأوقات. فحسب تجربته الشخصية والتي يحكي عنها بدقة فهو يعمل خلا ل الصيف بائعا للماء بالاماكن المكتظة بالناس كالأسواق والشوارع. وخلال عطلة نهاية الأسبوع يزاول مهنته بالملاعب الرياضية وهو ما يدر عليه مبالغ مالية مهمة تعوض خسارته خلال باقي أيام الأسبوع. ويتردد خلال فصل الصيف على الأماكن التي يرتادها المهاجرين والسياح، لأن هؤلاء وحسب قولهم " المهاجرين والنصارى، الخدمة معاهم حلوة وبحلاوتها، وإلى اغناتك ماتفقسك وهي ديما رابحة". إذ يحرص صاحبنا على زيارة المقاهي الكبرى والتجوال بالشواطئ الآهلة بالمصطافين وهو ما يوفر له حرية أكبر في بيع الماء خاصة وأن الكرابة نادرا ما يعملون بالشواطئ. ومع حلول فصل الشتاء يتجه العربي إلى بيع الماء بالدواوير التي يندر بها وجود الماء والبراريك والكاريانات وهي كلها مناطق تقبل على شراء الماء بشكل منقطع النظير، وبعمله هذا أصبح العربي معروفا في دور الصفيح والدواوير المجاورة وأصبح له زبناء خاصين يعرفونه جيدا ويقبلون على اقتناء الماء الذي يحمله إذ غالبا ما يعود وقد باع كل الماء الذي يحمله في عربته وهذه المرة تخلى العربي عن زيه الخاص بالكرابة لصالح زي آخر يناسب عمله بهذه الاماكن ويصف العربي تجربته بأنه يجب على الكراب أن يتلون مع تلون الزمان وإلا أكلته الحيتان. وعن ذلك يقول "الكراب أصبح مطالبا اليوم بالبحث عن سبل عيش جديدة بالموازاة مع عمله". فبالإضافة إلى كل هذه الأنشطة، فإن العربي يتفرغ في الصيف ليلا للعمل بالأعراس وهي فرصة يتعرف خلالها على أشخاص جدد مما يسمح له بربط علاقات جديدة وبالتالي تكوين شبكة معارف مهمة والتي يقول عنها أن معرفة الناس كنوز.

almichaal hebdo